(ظلام):
فقد جدّي راشد بصرهُ في الثامنة عشر إثر إصابته بالجدري في فترةٍ أبكر من عمره، ونجى بذاكرةٍ حديديةٍ ما فارقته حتى آخر أيامه. لطالما حكى عن مغامرات ما قبل الظلام، عن رحلاته البحرية إلى “مَمْبَي” والبصرة والكويت، عن حياته في الكويت، وعن “المحمل” الذي “سكع” قريبًا من سواحل المصنعة، وعن وظيفته كعامل بناء، وعن حفلات عبدالله فضاله، وعن “السمر والبيض”، وعن ودام الساحل، وعن الشّعر، وعن عبد الرحيم البرعيّ اليمانيّ. وبالنسبة لرجلٍ لم يعد يدرك الوجود بصريًّا، كان طبيعيًّا جدًّا أن تدخل غرفته فتجده وحيدًا، يرتّل قرآنا أو يدندن غناءً أو ينشد شعرًا، فوحدهُ السمع، من لا يحتاجُ لتذوّق، أو لمس، أو رؤية، أو شمّ ليتحقق إدراك موضوعه تمامًا، هكذا كان جدّي يتأكد من أنّه لا يزال على قيد الحياة.
(تفجّع):
في مساحة مليئة بالوحشة والغربة عاش جديّ عقده الأخير، فقد زوجه في 2011، ثم ابنه الأصغر في 2017، ثم ابنًا آخر في 2021، فكان بعد كلّ خسارة يشدّ على أيدي من تبقّى من الأبناء وكأن خسارته لا تُعدُّ ولا تذكر في مقابل خساراتهم، كان رجلًا صبورًا بحقّ. التحق بزوجه وابناءه في موعدٍ لم يكن شديد المفاجأة كما كان الأمر بالنسبة للبقية، توفي جدّي في 2023 إثر تكالب الأمراض والأعطال الحيوية عليه. كنت قد قضيت آخر أسبوعين من حياته برفقته في مستشفى جامعة السلطان قابوس بمسقط، لم أره يصارع الموت بقدر ما كان يصارع للخروج من المشفى، لم يعبأ بالموت، بل بألّا يزوره الموت خارج بيته. ذات ليلة، حاول اقناعي بضرورة الرحيل، قلتُ: علينا أن ننهي العلاج وسنذهب. قال: “تظنُّ لأنني أعمى، فإني لن أستطيع الخروج من المشفى بمفردي، لكنك مخطئ، سأرحل إلى ودام الساحل مشيًا، لي رفاق سيدلّونني على الطريق حتى أصل، قد يأخذ الأمر أكثر من يوم، لكنني سأصل”. حتمًا لم يكن يهذي، أذكرهُ يمخر عباب ظلامهِ زائرًا أصدقائه الذين أنهكهم المرض، وأهله الذين يشتاق، وحيدًا دون مرافق. وأذكر ذهابه اليومي إلى سوق السمك، إلى الجامع، وأعرف أنّه سيرحل إلى السماء أيضًا، وحيدًا على قدميه تُرشده عُكّازهُ، لقد كسر الظلام بذاكرة حديديّة.
(ذكريات):
كانت أحاديثي معه منذ مرحلة مبكرة من عمري تتمحور حول اهتمامين؛ تاريخ الناس في القرية، وما يحفظه من الشعر. فكان يخبرني كثيرًا عن قصيدته الأثيرة لعبد الرحيم البرعيّ اليماني: “يا راحلين إلى منىً بقيادي”، أو عن قصيدة عبد الرحيم الأخرى: “متى يستقيم الظل والعود أعوجُ”، ضاحكًا بسخرية وهو يردد:
“هي النَفس وَالدنيا وابليس وَالهَوى *** بطاعتهم عَن طاعة اللَه أَزعجُ”
معلّقًّا: “بَيِيْ بعيد” أي سأبعد نفسي عن ذلك، ثم يردف ضاحكًا أيضًا: “إذا دارت لك النفّس وابليس، هين نوّك؟” بمعنى؛ أيّ مصيرٍ ينتظرك إن تكالبت عليك نفسك مع إبليس! وكان كثيرًا ما يُردّدُ أبيات من قصيدة عنترة “إذا كشف الزمان لك القناعا” ومنها:
“حصاني كان دلّال المنايا *** فخاض غبارها وشرى وباعَ”
ويقول: “جبّارٌ عنترة”. كما لا أنسى أحاديثنا وهو يشرح لي “حيثيّات” أغنية “السمر والبيض” التي علقت في ذاكرته منذ ستينيّات القرن الماضي، موضّحًا موقفه المتفهم لمن يفضل السمر أو البيض، إلا أنه كان كثيرًا ما يضحك ويسخر من “سْعَيْدَه”.
(جُثّة):
حين أتصل بي والدي من القرية، ليعلمني بوفاة جدّي، الذي كان قد نُقل إلى غرفة العناية المشددة صباح يوم وفاته، فلم استطع أن أقضي الليلة معه، كنتُ جاهزًا للخبر، ما لم أكن جاهزًا له هو التعامل مع جثةٍ هامدة. لا أعلم كيف انفرط الوقت من بين اصابعي وخر كما يخرّ الماء لكنني أعلم الآن أن بركة الزمن المتجمدة لا زالت أمامي. عصِيّة على الذوبان، وهشّة للغاية بحيث لا يمكنني العبور إلى الضفة الأخرى. هكذا تسمرت لساعة كاملة أتأمل الانعكاس، لم يكن وجهي على وجه الجليد، كان وجه جدي؛ برزت منه عيناه اللتان سبقنه للموت بستة عقود على الأقل. بدتا مؤطرتن بأثر دم متيبّس لم ينجح الممرضون في إخفائه بالكامل في الساعة التي فصلت بين الموت وبين حضوري لاستلام الجثة. الاصفرار أو الشحوب كان باديًا على بشرته البنيّة، أدركت حينها لون الموت. دفعتني روحي نحو وجهه لأمسّد بيدي رأسه الذي لا زال يحتفظ بقليل من الشعر الأبيض والرمادي، حينها فقط خرج مني كل ما حبسته من بكاء طوال الأسبوعين اللذين رافقت فيهما جدي في رحلته نحو الموت، الرحلة التي لم تكن مليئة بالعذاب كما شهدتها لكنها كانت مليئة بالرفض، لم يرد جدي أن يموت في المشفى. وجدت يداه وباقي جسده -أو جثّته- يستتران في حقيبة الموت، فلم يبق الممرضون سوى وجهه النحيل لأراه فأتأكد أنني استلمت الموت الخاص بي وعائلتي لا موتًا آخر. أُغلقت الحقيبة بعد ذلك، وفُرّغ سريرٌ لموتٍ آخر أو ربما حياةٍ جديدة. لم أكن أتوقع أنني سألمس الجثّة، ناهيك عن حملها ومساعدة الشخص المسؤول عن نقل الجثّة من داخل المستشفى إلى سيارة “تكريم الموتى” أمام بوابة الطوارئ. كان طاقم المشفى قد سألني عمّا إذا كنت أمتلك سيارةٌ تكفي لنقل الجثة فأجبت بأنني لا أمتلك واحدة تفي بالغرض، رغم أني أتيت للمشفى بمركبة دفع رباعي. لم أكن متأكدًا بأنني أريد أن أقضي ساعةً كاملة لوحدي مع هذا الرجل الغريب، لا أعرفه، لا يعرفني، مُخبئٌ في حقيبة، خلف ستار الموت، لا ليس ذلك ممكنًا. اتصلوا بسائق سيارة تكريم الموتى، حملت الحقيبة معه وأدخلناها في السيارة، هكذا وبنهاية تلك الليلة كان أكثر ما لمسته يدي هو الموت .