نشر هذا المقال في الرابع من ديسمبر ٢٠٢٣على مجلة الفلق الإلكترونية
في يونيو/أيار من العام 1967 وبعد مُضي سنوات خمس على الاستقلال، أضرم طلاب جزائريون النار في كتب جان بول سارتر، سارتر الذي كان صديقًا عظيمًا للثورة الجزائرية، وفي ذات الفترة الزمنية تقريبًا، طلبت جوزي فانون، أرملة الطبيب النفسي والكاتب المناهض للاستعمار فرانز فانون، من ناشر كتب زوجها الراحل أن يتخلص من التقديم الذي وضعه سارتر لكتاب زوجها “معذبو الأرض“، وقالت: “من هذه اللحظة فصاعدًا، لا شيء يجمعنا بسارتر إطلاقًا”، أمّا في العراق فقد حُظرت كُتب سارتر ، وتسابق المثقفون العرب في كل المجالات للتنصّل من تقاربهم مع الفيلسوف القادم من الضفة اليسار لباريس. وبإعلانه التضامن مع إسرائيل عشيّة حرب الأيام الستة في 1967 وضع سارتر حدًّا للحركة الوجودية العربية، ترتب على ذلك أن تشوّه موقفه الثوري المتعلق بنضال التحرر في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
سارتر وقيام دولة إسرائيل
في 1947-1948 كان سارتر وأغلبيّة المثقفين الفرنسيين يمين ويسار الطيف السياسيّ يؤيدون إنشاء دولة يهوديّة في فلسطين. يقول سارتر: “لطالما أملت ولا أزال آملُ أن تجد القضيّة اليهوديّة حلّا جذريًّا راسخًا من خلال الأُطر الإنسانيّة بعيدًا عن أي اعتبارات جغرافيّة. لكن وبما أن التحوّل المجتمعيّ يتضمن حتمًا مرحلة استقلال وطنيّ، فلا يسعنا إلا أن نرحّب بحقيقة أن دولّةً إسرائيليّة تتمتع بالحكم الذاتيّ أعطت الشرعية لآمال ونضالات اليهود في جميع أنحاء العالم”.
كان لكلمات سارتر هذه وقعًا مدمرًا على موقفه السابق من السؤال اليهودي، ففي مقال له بعنوان “معاداة الساميّة واليهود”، كتب: “إنها لمعاداة الساميّة من تخلق اليهودي… إنها هي من تجعل اليهوديّ يهوديّا رغمًا عنه”. كما شكّلت هذه الكلمات أيضًا تناقضًا فجًّا مع انخراط سارتر السياسي في كفاح التحرر في كل من كوبا وفيتنام، وموقفه المعادي “لسرطان” نظام الابارتايد في جنوب إفريقيا، والنظام العنصري في الولايات المتحدة، وهو موقف تشكّل بلا شك وفق اثنين من العوامل على وجه التحديد: نهاية الحرب العالمية الثانيّة مؤخرًا، والواقع المرعب لمعسكرات الاعتقال النازيّة، والتي وفقًا لسارتر أسست ما يسيمه بـ”الالتزام العاطفيّ” للمثقفين الفرنسيين فيما يتعلّق بفلسطين والصراع العربي الإسرائيلي على نطاق أوسع.
“وعليهِ هل نحن مصابون بالحساسية تجاه أي شيءٍ يمكن أن يشبه، بشكل أو بآخر، معاداة الساميّة؟ سيردّ الكثير من العرب: “نحن لسنا معادين للساميّة، نحن معادين لإسرائيل”. وهم بلا شكّ محقّون، لكن لا يمكنهم منعنا من النظر إلى الإسرائيليين بوصفهم يهودًا أيضًا” كان هذا نصّ ما نشره سارتر في 1967 في صحيفة “des Temps modernes” وهي صحيفة شارك في تأسيسها مع سيمون دي بوفوار. وكانت تلك الفترة خاضعة للمناخ السياسي العام، حيث كانت الأوساط الثقافية الغربية تتسم بحماسة معادية للاستعمار، والتي بلا شكٍّ ساندت قيام دولة يهوديّة، متجاهلةً وجود سكانٍ أصليين فلسطينيين.
حق تقرير المصير
خلال الخمسينيات كان سارتر صامتًا فيما يتعلّق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي الآن ذاته عززّ من جهوده لصالح الاستقلال الجزائري، حيث قام في هذه الفترة بنشر العديد من المقالات المؤيدة للثورة، والبحث المعنون بـ”الاستعمار هو نظام”، وهي ورقة قويّة تفكك الاستعمار موضّحةً كيف يُمثّل الاستعمار نظامَ عنف متفاقم. خلال هذه الفترة كان سارتر محبوبًا في الأوساط الثقافية العربية، محبّة اكتسبها إثر آرائه الصريحة وصورته كمثقف ملتزم، من الجزائر وبغداد إلى القاهرة ودمشق وبيروت، كان سارتر واحدًا من أكثر المثقّفين الذين تُرجمت أعمالهم ونوقشت واحتُفي بها على نطاق واسع.
بالنسبة لسارتر، لم يعد السؤال الفلسطيني قابلًا للتجنّب بعد استقلال الجزائر في 1962. وجد سارتر نفسه مُمَزّقًا بين قناعاته السياسيّة وبين “التزامه العاطفيّ”، فأختار الحياد- وهو موقفٌ متناقضٌ حافظ عليه بطرقٍ ملتوية ومتضاربة. فمن جهة، أدان سارتر بشكل مستمرٍّ الظروف المعيشيّة للاجئين الفلسطينيين وأيّد حقّهم في العودة؛ ومن جهة أخرى، آزر وجود إسرائيل بوصفها دولةً ذات سيادة. كانت الجهود التي بذلها سارتر للحفاظ على موقفه “المحايد” هي ما آلت به إلى أزمةٍ ثقافيّة.
في فبراير/شباط من عام 1967، زار سارتر مصر وغزّة وإسرائيل للتحقيق في شأن الصراع، فتحدث خلال زيارته تلك مع الطلاب والنشطاء واللاجئين والنساء والعمال وأعضاء الأحزاب بما في ذلك الرئيس المصري جمال عبد الناصر. في كتابه “لا مخرج“، يصف المؤرخ يوآف دي-كابوا تعقيدات تنظيم مثل هذه الزيارة، ناهيك عن العواقب السياسيّة الثقيلة، حيث يتنافس طرفا الصراع على الفوز بدعم الفيلسوف الفرنسي الشهير، وفُكِّكَ كل ما قاله، وحُلِّلَ وفُسِّرَ كإشارة محتملة على دعمه لأحد الأطراف. وفي خضم ذلك كان المثقفون العرب ينشرون المزيد والمزيد من الافتتاحيّات والبيانات يحثّون سارتر من خلالها على اتخاذ موقف صريح وصارم، حيث رأوا في حياده اصطفافًا مع إسرائيل.
انقلاب مذهل
وبعد وقت قصير من رحلته الشهيرة، أدى تصاعد التوترات بين مصر وإسرائيل إلى تصعيد عسكري في المنطقة، وحصد هذا التصعيد دعمًا كبيرًا في فرنسا لصالح إسرائيل، دعمٌ تحوّل إلى حملة عنصرية مناهضة للعرب في أوساط الجنود السابقين العائدين من الجزائر الفرنسيّة. وفي هذا الصدد، نشرت صحيفة “Le Monde” عريضةً لدعم إسرائيل، كان سارتر من بين الموقّعين عليها، معلنًا بكلّ صراحة قطيعة بين الفيلسوف الفرنسيّ وأصدقاؤه العرب الذين لن يعلموا إلا فيما بعد أن سارتر كَرِهَ أن يُوقِّع.
انطلاقًا من السبعينيات وتزامنًا مع تكثيف وتصدير النضال الفلسطيني إلى أوروبا، شهدت آراء المثقفين اليساريين بشأن إسرائيل انقلابًا مذهلًا، حتى أن سارتر نفسه وصل إلى حدّ دعم الهجمات الإنتحارية. حيث يقول: “لقد دعمت دائمًا الإرهاب المكافح المضاد للإرهاب الراسخ، ولطالما عرّفت الإرهاب الرّاسخ بأنه الاحتلال، والاستيلاء على الأراضي، والاعتقال التعسّفي، وما إلى ذلك”. لم يَعد يُنظر إلى إسرائيل بوصفها جزيرة محاطة بمياهٍ عربيّة معادية، بل باعتبارها ترسًا في آلة الإمبرياليّة الأمريكية، ترسًا كثيف التسليح، يهاجم شعبًا سحقته قرون من الاحتلال العثماني، ثم البريطانيّ لاحقًا.
في يونيو/حزيران من العام ذاته، خاطب سارتر في رسالةٍ والدة أحد معارضي الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أكد فيها على أنّه “سيكون من صالح المحكمة تبرئة [المتّهم] الذي يُحتمل أن يقضي سنواتٍ في السجن نظرًا لتصرّفٍ شجاعٍ وواقعيّ: رفضُ الخدمة العسكرية في جيش كان في بادئ الأمر جيش دفاع، لكنّه سرعان ما نفّذ تكتيكاتٍ هجوميّة وصار قوّة احتلال”
الكفاح من أجل الحريّة
إذن كيف حدث هذا الانقلاب السياسي؟ من الممكن الحصول على إجابة في الحوار الذي أجرته صحيفة الأهرام المصرية، ظهر الحوار أيضًا على المجلة الوجودية المعروفة بسم “الأدب” في لبنان، جرى الحوار بعد شهور تلت توقيع سارتر على العريضة المثيرة للجدل. وقال سارتر، الذي تحصّن بالصمت إثر ما أثاره توقيعه من جدل، أن توقيعه كان موقفًا “ضد حرب الأيام الستة الوشيكة” وليس ضد كفاح العرب والفلسطينيين “من أجل الحريّة والتقدّم”. وأدان استخدام إسرائيل للنابالم، واصفًا ذلك “بالعمل الإجرامي”؛ وأوضح لم كان الرأي العام الفرنسي ميّالًا لإسرائيل في حرب 1967، مبررًا ذلك بأن الموقف الفرنسي جاء محفوفًا بمخاوف من شهود “محاولة ثانية لتصفية اليهود”، كما قال أن الموقف الفرنسي كان أيضًا مدفوعًا بالجهل بما يحدث على أرض الواقع فعلًا. وصرّح سارتر أن “حروب التحرر هي الحروب الشرعية الوحيدة”، مدينًا بذلك نوايا التوسّع الإسرائيلية حيث وصف خُطّة ضم القُدس “بالجنون المطلق”. أخيرًا قال أنه يشعر بالأسف حيال تمكن “القوات الرجعيّة القويّة” من الحصول على موطئ قدم في إسرائيل، وهو ما يقوّض كل احتماليات السلّام.
في عام 1976 حصل سارتر على شهادة دكتوراة فخرية من الجامعة العبرية في القدس. وفي خطاب تسلّم الجائزة قال أنه سيتشرّف بالحصول على نفس اللقب من جامعة القاهرة. وفي 1979 قام سارتر بتنظيم ندوة من أجل تعزيز السلام في الشرق الأوسط، كان المثقفون الفلسطينيون والإسرائيليون مدعوون لحضور الندوة. توفي سارتر بعد ذلك بعام في 15 إبريل/نيسان 1980.