نقائض | علي المجيني

مدونة شخصية أنشر فيها ما أكتبهُ مقالًا وترجمةً، كما أستعرض فيها بعض المراجعات الذاتية والموضوعية.

الشعر كمعتقلِ تعذيبٍ للغة

slavoi2

كُتب بواسطة: سلافوي جيجك | ترججمة: علي المجيني

تشوهت سمعة أفلاطون بسبب مطالبته بنفي الشعراء من المدينة، وهي نصيحة معقولة إلى حدٍّ ما بالنظر إلى التجربة ما بعد اليوغوسلافية[1]، حيث كانت أحلام الشعراء الخطيرة مطبخًا لتحضير التّطهير العرقيّ. قد يكون سلوبودان ميلوسيفيتش هو من “تلاعب” بالمشاعر القوميّة، لكنّ الشعراء هم من زوّدوه بأدوات التلاعب، فكان الشعراء المخلصون، وليس الساسة الفاسدون، منبع ذلك كُلّه، حينما بدأوا، في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، بزرع بذور القوميّة العدوانيّة، ولم يكن الأمر مقتصرًا على صربيا فحسب، بل شمل كل الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة. وبدلًا من المجمّع الصناعي العسكري[2]، فنحن في مرحلة ما بعد يوغوسلافيا كان لدينا المجمّع الشعري العسكري، الذي تبلور في الشخصيتين التوأم رادوفان كاراديتش وراتكو ملاديتش. لم يكن كاراديتش قياديًّا سياسيًا وعسكريًّا قاسيًا فحسب، بل كان شاعرًا أيضًا. ولا ينبغي علينا ردّ أشعاره بحجّة السُّخف، فهي تستحق قراءة متأنية من حيث إنها تمثّل مفتاحًا لفهم آلية عمل التطهير العرقي. فيما يلي الأسطر الأولى من قصيدة له غير معنونة قُدّمت بالإهداء “….. من أجل إزليت ساراجليتش”:

اعتنقوا أيها الناس معتقدي الجديد

حيث ما لم يُقدِّمهُ أحدٌ من قبل

أعطيكم الصلادة والنبيذ

ولمن لم يجد خبزًا، غذاءً من أنوار شمسي

لا شيء محرّمٌ، أيها الناس، في معتقدي

حبٌّ وشُربٌ

ونظرٌ أبديٌّ إلى الشمس

هذا الإلهيُّ لا يحرّم شيئًا عليكم

يا أبناء دمي، أيها الحشد، أيها الناس، أطيعوا ندائي

إن السمة القوية والحاسمة لقوميّة “ما بعد الحداثة” في يومنا هذا تكمن في قدرتها على إباحة المحظورات الأخلاقية الموضوعة بواسطة الأنا العُليا. ولذلك فإنه يجب تغيير العبارة المبتذلة التي تقول بقدرة الهوية العرقية العاطفية على استعادة منظومة ثابتة من القيم والمعتقدات في ظل حالة انعدام الأمن المربكة في مجتمع عالمي علماني حديث، حيث إن “الأصولية” القومية تعمل بالأحرى كمبيحٍ سرِّيٍّ بالكاد يخفى. إننا نحكم على أنفسنا بالفشل في فهم الديناميكيات الحقيقية للتأثير التحرري الزائف والمنحرف للقومية اليوم، إن لم نعترف به اعترافًا كاملًا، وكذلك بأثر الأنا العليا المتسامحة بشكل فجّ مع تغيير النسيج الواضح للقانون العرفي والاجتماعيّ.

في كتابه “فنومينولوجيا الروح” يشير هيغل إلى “نسج الروح” الصامت والمتواصل وهو عملٌ باطنيٌّ متواصل على تغيير التوجّهات الإيديولوجية، غير مرئي لعين العامّة في الغالب، ينفجر فجأة ويأخذ الجميع على حين غرّة. وهذا ما كان يحدث في جمهوريات يوغسلافيا السابقة في السبعينيات والثمانينيات، فعندما انفجرت الأمور في أواخر الثمانينيات، كان الأوان قد فات، وكان الإجماع الإيديولوجي القديم فاسدًا، فانهار من الداخل. كانت يوغوسلافيا في السبعينيات والثمانينيات مثل القط الذي يضرب به المثل في الرسوم الكرتونية، ذلك الذي يستمر في المشي فوق الهاوية، إذ لا يسقط إلا عندما ينظر أخيرًا إلى الأسفل، ويدرك أن لا مداس تحت قدميه. كان ميلوسيفيتش أول من أجبرنا جميعًا على النظر إلى الهاوية.

يمكننا بسهولة أن نستبعد كاراديتش ورفاقه لكونهم شعراء سيئين، إلا أن جمهوريات يوغوسلافيا السابقة (بما في ذلك صربيا نفسها) كان لديها شعراء وكتّاب معترف بهم على أنهم “عُظماء” و “أصيلون”، كما كانوا أيضًا منخرطين تمامًا في المشاريع القومية. وماذا عن النمساوي بيتر هاندكه الذي يعدّ اسمًا بارزًا في الأدب الأوروبي المعاصر، والذي حضر علانيةً جنازة سلوبودان ميلوسيفيتش؟ ومنذ ما يقارب القرن، في إشارة إلى صعود النازية في ألمانيا، قال كارل كراوس مازحًا إن ألمانيا بلد الشعراء والمفكرين، أصبحت بلد القضاة والجلادين، يجب ألّا يفاجئنا انقلاب كهذا كثيرًا. ولئلا ينشأ وهم بأن المجمّع الشعري العسكري خصوصيّة بلقانية، يتعين على المرء أن يذكر حسن نجيزي، أو كاراديتش الرواندي، الذي كان يروّج عبر مجلّته كانجورا (Kangura) كراهيةً تجاه قبائل التوتسي داعيًا لإبادتهم.

لكن، هل هذه الروابط بين الشعر والعنف مجرد روابط عرضيّة؟ وكيف ترتبط اللغة بالعنف؟ في كتابه “نقد العنف”، يطرح والتر بنيامين ما يلي: “هل يمكن التوصل إلى حل غير عنيف لصراعٍ ما؟”، وكانت إجابته أن مثل هذه الحلول السلمية ممكنة في “العلاقات الشخصيّة”، من خلال المجاملة والتعاطف والثقة، “يوجد نطاق من التوافق الإنساني عصيٌّ على العنف تمامًا، وهو نطاق “التفاهم”، أو اللغة”. تنتمي هذه الأطروحة إلى التقليد السائد الذي يقول بأن اللغة والنظام الرمزي[3] هي وسائل للوساطة والمصالحة والتعايش السلمي، في مقابل المواجهة المباشرة والمطلقة كوسيلة للعنف. في اللغة، وعوضًا عن ممارسة عنف مباشر تجاه بعضنا، نتحاور ونتبادل الكلمات، وهو تبادلٌ، وإن كان عدوانيًّا، إلا أنّه يُلزم بالحد الأدنى من الاعتراف بالآخر.

لكن ماذا لو كان البشر أقدر على العنف من الحيوانات فقط لأنهم يتكلمون؟ توجد العديد من السمات العنيفة للغة التي اتخذها الفلاسفة وعلماء النفس موضوعات لدراستهم، انطلاقًا من بورديو إلى هايدغر. ومع ذلك، فإن جانبًا عنيفًا من اللغة لم يكن حاضرًا عند هايدغر، وهو محور نظرية لاكان حول النظام الرمزي. طوال عمله، عمد لاكان على طرح تنويعات على فكرة هايدجر عن اللغة بوصفها بيت الوجود، ليست اللغة أداة من صنع الإنسان، بل الإنسان هو من “يسكن” داخل اللغة؛ “يجب أن يعرّف التحليل النفسي كما يلي: علمُ اللغةِ التي يسكنها الموضوع[4]“. جاءت إضافة لاكان المرتابة بمثابة تدخّلٍ فرويدي على هايدغر، حيث يرى لاكان أن هذا المسكن في الواقع مُعتقل تعذيب؛ “من منظور فرويديّ، الإنسانُ مُعتَقلٌ في لغةٍ تُعذّبهُ”.

جلبت الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين (1976 إلى 1983) خصوصية نحويّة ما، إذ استحدث استخدامٌ مُختلفٌ للأفعال اللازمة؛ فحين اختفى آلافٌ من الناشطين والمفكرين اليساريين، ولم يشاهدهم أحدٌ بعدها، ذلك أنهم عُذِّبوا وقُتلوا على يد الجيش الذي أنكر أي علم بمصيرهم، كان يُشار إليهم بمصطلح “اُختُفى/اُختُفوا”[5]، حيث لم يستخدم الفعل بصيغته المعتادة “اِختَفى”، بل كما يلي:  “لقدِ اُختُفوا على يد الشرطة السرية”. وإبان نظام ستالين، أثّر تصريف غير طبيعي مماثل على الفعل “تنحّى”؛ فعندما أُعلن عن تنحّي عضو رفيع من النومينكلاتورا[6] عن منصبه (لأسباب صحيّة، كالعادة القاعدة)، كان الجميع يعلم أن السبب الحقيقي وراء ذلك أنه خسر في صراعات الأطراف المختلفة في النومينكلاتورا، فقال الناس أنّهُ “تُنُحّي”. مجدّدًا نجد فعلا يلزَمُ عادةً المُتأثر بهِ (تنّحى الرجل، اختفى الرجال)، يعاد تصريفه ليشير إلى أنه جاء نتيجةً لفعل يفتقر للشفافية قام به طرفٌ آخر (اٌختُفيَ الرجال على يد الشرطة السريّة، تُنُحِّيَ الرجلُ على يد الأغلبية في النومينكلاتورا). ألا ينبغي لنا هنا أن نقرأ بالطريقة ذاتها تمامًا أطروحة لاكان القائلة بأن الإنسان لا يتحدث، إنما هو مُتَحدَّث؟

والمسألة هنا ليست أن الإنسان مُتحدّثٌ عنهُ، بمعنى أنه موضوع لحديث الآخرين، إنما حينما يتحدّث الإنسان (أو يبدو أنه يفعل) فإنه مُتحدَّثٌ به. تمامًا كما في حالة المسؤول الشيوعي الرفيع سيء الحظِّ حين “تُنُحِّيَ”. ما يُشير إليه هذا التشابه هو وضع اللغة، أو “الآخر العظيم”[7]، بوصفها معتقل تعذيبٍ لمستخدمها.

عادة ما ننظر إلى حديث شخصٍ ما، بكل ما فيه من تناقضات بوصفه تعبيرًا عن اضطراباتٍ داخليّةٍ، ومشاعر غامضة، …إلخ. ينطبق هذا أيضًا على الأعمال الفنيّة الأدبيّة: حيث يُفترض أن مهمة القراءة التحليلية النفسيّة للنص هي الكشف عن الاضطرابات النفسية التي وجدت طريقها مُشفّرةً إلى الخارج عبر العمل الفنّي. إلا أن هناك أمرًا ناقصًا في مثل هذا الاعتبار: لا يُسجّل الحديث أو يُعبّر عن الآلام النفسيّة فحسب؛ إن الدخول إلى الحديث (إلى اللغة)[8] هو في حد ذاته واقعٌ مؤلم. أعني أن علينا أن نُدرج الألم النفسي الذي ينجم عن الحديث نفسه في قائمة الآلام النفسية التي يحاول الحديث التعامل معها. كما يجب تغيير العلاقة بين الاضطرابات النفسية والتعبير عنها عبر الحديث؛ فالحديث لا يعبّر أو يوضّح ببساطة الاضطرابات النفسية فحسب، إنما وعند نقطة محوريّة ما، تكون الاضطرابات النفسية في ذاتها رد فعل لصدمة العيش في “معتقل تعذيب اللغة”.

ولهذا، فمن أجل استنطاق الحقيقة، لا يكفي تعليق التدخل النشط للمتحدث والسماح للغة نفسها بالتحدث. بل وكما عبّرت إلفريد جيلينيك بوضوحٍ رهيب: “يجب تعذيب اللغة لتقول الحقيقة”. يجب تحريفها، ونزع طبيعتها، تمديدها، وتكثيفها، قطعها، وتجميعها، وجعلها تعمل ضد نفسها. إن اللغة باعتبارها “الآخر العظيم” ليست ممثلًا للحكمة التي تستوجب انصياعنا، ولكنها مكان للامبالاة والغباء القاسيين. إن الشكل الأكثر بدائية ليُعذّب متحدثٌ ما لغتهُ يسمّى الشعر.



[1] جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية: ضم هذا الاتحاد كلاً من صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود وجمهورية مقدونيا. يشير الكاتب هنا إلى ما حدث بعد تفكك هذا الاتحاد.

[2] المجمع الصناعي العسكري: هو مصطلح يصف العلاقة المالية والسياسية القائمة بين المشرعين والقوات المسلحة الوطنية والصناعات العسكرية التي تدعمهما.

[3] النظام الرمزي: مجموعة من الرموز ودلالاتها والعلاقات القائمة بينها. مثال: صوت كلمة (أرنب) يرمز لكائن حي يصنّف على أنه من الحيوانات الثديّة…إلخ.

[4] أي موضوع التحليل، وهو الإنسان الخاضع للتحليل النفسي.

[5] طرأت خصوصية نحوية فكاهية مماثلة في مصر إثر (انتحار/اغتيال) عبد الحكيم عامر في زمن عبد الناصر، فكان المصريون يشيرون إلى وفاته بفعل “أُنْتُحِر”.

[6] النومينكلاتورا: هي الطبقة الجديدة هو مصطلح يستخدم بين ناقدي الشيوعية لوصف طبقة حاكمة ومرفهة ظهرت من بين بيروقراطيي ومسؤولي الدول التي اتبعت نموذج الاتحاد السوفييتي، يعرفون باللغة الروسية باسم نومينكلاتورا، والبرجوازيون الحمر كمرادف، ظهر المصطلح لأول مرة عام 1957 في كتاب ميلوفان دجيلاس، نائب رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية، والمعنون الطبقة الجديدة: تحليل النظام الشيوعي.

[7] الآخر العظيم: مفهوم لـ لاكان يشير إلى النظم الاجتماعية والأعراف الثقافية التي تحكم أفعالنا وأفكارنا. يشير الكاتب هنا إلى اللغة بوصفها ممثلا لهذه النظم الخارجية.

[8]  المترجم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram
Scroll to Top