تراودني حازمةً فكرة/رغبة الكتابة عن قريتي لشهر أو أكثر الآن، ليس غريبًا أن يخطر ببالي أو أن تدفعني حاجاتي اللاجسدية للكتابة، فتلك نزوات حتميّة ومتكررة مثل شبقٍ ليليٍّ عارم لامرأة لا أعرفها. لكن الغريب هو اجتماع هذه النزعات حول فكرة واحدة، وهي فكرة ليس موضوعها القرية المفهوم، بل القرية قريتي، أمُّ الساحل، ودام الساحل. في نظري، لم يعدو الأمر نزوة لا جسدية من نوعٍ أكثر إلحاحًا، فليس هناك ما يميّز قريتي عن القرى الساحليّة المجاورة لها، أو البعيدة عنها. إلا أن الإلحاح تواصل، وجاء طارقًا مُستكتبًا، وجاء مقتحمًا مُستحنًّا، فروّع نومي في ليالٍ، وفضح عجزي في صباحاتٍ لم تكن أكثر إشراقًا.
لا أُحبّ مشروب الشاي بالحليب، أو ما يعرف بالكرك في الدارجة. وعلى الرغم من أن أمّي الحبيبة كانت تُعدّه لنا، وعلى الرغم من أنني كنت أشربه قبل الذهاب للمدرسة، وعلى الرغم من أنني شربته كثيرًا في أيام دراستي في الولايات المتحدّة مستجديّا إياه بيأس عبر تحضيره، أو شربه مقاومةَ حنينٍ، أو شوقٍ، أو اغترابٍ ما، إلا أنني وإياه لم نجتمع سوى في مسائل فسيولوجية بحتة. وفيما عدا “كرك الضيافة الأمني” الشهير، فلا يمثّل الكرك مسألة تعدو كونه مجرد مشروب آخر.
في ليالي الشتاء الباردة نسبيًّا، الباردة جدّا فيما يخص ذاكرتي كطفل، أذكر أن أمي كانت تعدُّ مشروبًا ساحرًا، دافئًا وحنونًا مثلها تمامًا، وعلى عكسها لم يكن محايدًا، كُنّا نعرفه أيامها بشاي الزعتر، إلى أن كبرتُ وعرفت أن عددا لا نهائيّا من المشروبات الساخنة تُسمّى اصطلاحًا بالشاي، وليس لذلك أي علاقة بوجود نبتة الشاي في المشروب من عدمه، وعرفت -كبيرًا أيضًا- أن شاي الزعتر هو حليبٌ مطهو مع نبتة الزعتر، ورقًا كانت أو مسحوقًا، والقليل من السُّكر، ليقضي على المتبقي من حياد المشروب ناصع البياض. كما لا أنسى المشهد اليوميّ الذي ما عرفت أنّه كان يوميًّا حتى ماتت جدتي واضطررت وأخي سلطان إلى النوم مع جدي الأعمى في غرفته التي لم يرها في حياته إلا كما يصفها الناس، ولم يعرف أماكن الأشياء فيها إلا كما تقول يداه، وبعض الجروح على جبهته. كان جدّي يصلّي الفجر، ويجلس لقراءة القرآن في روتين يوميّ متكرر حتى تؤذن عاملة المنزل بقرب انتهاء جدّي من طقوسه عبر دخولها إلى الغرفة حاملةً كوبَ حليب بالزعتر سيستفتح به جدّي يومه بعد أن يغفو لربع ساعة منتظرًا انخفاض درجة حرارة المشروب الساخن. تضع العاملة الشاي تحت سرير جدّي قريبًا من أحد الأرجل، مجاورًا لماء الشرب والأدوية اليومية، ينهي جدّي غفوته، يقرفص على الأرض، يخرج كوب الحليب بالزعتر الموضوع في صحن صغير مع ملعقة شاي، يعيد خلط المشروب إذ تخبره ذاكرته أن مسحوق الزعتر سيطفو على سطح الحليب إذا ما تٌرك لفترة معيّنة، ثم يشربه، ويسألني وأخي أن نفيق من النوم، ونزيل ما نفترشه من على الأرض، قبل أن نعود لبيتنا لنستعد للذهاب إلى المدرسة بكوب “كرك”.
للمرة الثانية في هذا الأسبوع أصحو في وقت بين السّحر والفجر مع رغبة جارفة للكتابة عن قريتي واستعدادٍ لذلك، للمرة الثانية أصحو مع رغبة غير اعتيادية في شرب حليب الزعتر، للمرة الثانية أتوجّه إلى المطبخ لآخذ كوبًا حافظًا للحرارة وأتجه به إلى مقهى وقت الشاي. أُرسل لصديقتي الحبيبة أنني أفقت، وأنني متجّه نحو “وقت الشاي” لأشتري كوبًا من الحليب بالزعتر، فتُردّ: “إذا كتبت شيئًا بعد حليب الزعتر، شاركني”.
فكرتين عن“بعد حليب الزعتر”
جميل
جميل هذا الخيال العذب