نُشر هذا المقال في يوم 19/12/2022 على مجلة الفلق الإلكترونية
عيناهُ تمضغانِ الوقت، بحيث لا يمكنك أن ترى فكرة الزمن أكثر هشاشةً مما تظهر عليه خلال الدقائق التسعون. لا شيء أبعد من أن يكون محض لعبة، لكن كل شيء، كل شيءٍ تحت حضوره يبدو أكثر من ذلك بكثير. حينما يأتي، يأتي منهمرًا. وحين يغيب، يختفي الجميع عداهْ. بالكاد تسمع صوتهُ، لكنك حتمًا ستراه. إنه بيننا، في أيامنا، تحت أنظار العالم، وفي عدساته. بيد أن الحديث عنه يبدو ضربًا من الخيال. يُوصفُ مادّيًا -وليس شعريا أو بلاغيًا- بأنه أسرع من الوقت بثانيتين -أي أنّه يرى ما نرى قبل أن نرى بثانيتين- أليس هذا جنونًا؟ أي جنون قادنا إليه؟ وأي علمٍ تجريبي علينا أن نخترع -مرةً أخرى- لنقيس بهِ ما يفعل؟ ولنفهم كيف يفعل؟ ولماذا؟ ورغم أنه يقوم بما يقوم به لما يقارب العقدين الآن، إلّا أنّه لا يبدو كمن يعي ما يحدث. ما زال طفلًا لا يفهم ما يجري حوله، يعرف تمامًا كيف يلصق الكرة بحذائه ويجري، كالولد الذي كانهُ يومًا في روزاريو.
ليس بطلًا قوميًا ولن ترى في وجههِ أو شخصيته أي شيءٍ يوحي بالبطولة. لا يملك لغةً مثل التي جعلت العالم يسجد لماردونا سيّدًا. لن تراهُ يتوشّحُ الكوفيّة، ولن تراه ضيفًا على فيدل كاسترو، ليس بطلًا. يمكنك القول بكل صراحة أنه رجل برجوازي، أو كما سيحلو لليسار تسميته: رجلٌ رجعيّ. لكن كل ذلك لا يعني شيئًا؛ حالما تحين التسعين. يمكن القول وبقدرٍ بالغٍ من الدقة أن كل ما اكتسبه ليونيل أندرياس ميسي كان نتاج وجوده على الرقعة الخضراء فقط. ولا يجب على هذا أن يعيبهُ كما لا يجب على العالم أن يعيب شخصية مارادونا الجامحة المتداخلة في السياسة والاقتصاد والدين والتي بطبيعة الحال وفّرت له عددًا أكبر من المعجبين والمحبين، بل والأصدقاء. أكثر بكثير مما كان أن يمكن له حصده من اللعب فقط.
لكن الأرجنتينيين لا يرون الحكاية هكذا، إنه الموهوب من الله لهم، امتدادًا لسحر سلفهِ دييغو. بالنسبة للأرجنتينيين؛ ميسي هو الفنّان الأخير في وجه التحول الروبوتي الذي يكاد يطغى على اللعبة. وكما كان لبورخيس أن يُدهشهم والعالم سويةً بكلماتٍ عاديةٍ ومفاجئة، صار على ميسي أن يفعل الشيء نفسه في الملعب وسط زحامٍ مستفز من الرجال الذي يمكن للجميع توقع اتجاه تمريرتهم القادمة. لي هُنا أن أدّعي لو أنّ بورخيس عاصر ميسي لقال رأيه في كرةِ القدم بتردد أكثر، حينما قيل له مرةً: “كرة القدم منتشرة” ردّ بورخيس: “لأن الغباء منتشر”. يختلف رأي غالبية الأرجنتينيين عن رأي بورخيس بالطبع. ميسي -لاعب الكرة- بالنسبة لهم مصلٌ يشفي ذاكرتهم من الحقيقة الممتدة منذ عقود أن غريمهم الكرويّ -البرازيل- يتفوّق عليهم بالإنجازاتِ والأرقام وحتّى عدد اللاعبين الجيّدين في تاريخ البلدين. لا يهمّ بالنسبة لهم عدد كؤوس العالم ولا البطولات ولا اللاعبين ولا أي اعتبارات أخرى طالما أن كل ما سبق لا يساوي بأي حالٍ من الأحوال أن يكون ميسي ومارادونا أرجنتينيين. إنه التعويض الذي ترضي به السماء المهزومين وترفعهم به لمستوى النديّة مع المنتصرين. ولذلك؛ كان على ميسي أن يكون بطلًا، وإن كان كل ما يجيده هو لعب كرة القدم، لِعِبُها كطفل.
الوقتُ يمضي، الفرصةُ تَكبُرْ، والأحلام تتسع. يحملُ الأرجنتينيون، وعشّاقه الكثير من الصلواتْ في جيوب بناطيلهم لم يرسلوها بعدُ للسماء، يعرفون أن قدم ميسي كفيلةٌ بتدبير الأمر في الوقت الحالي. يجهزونها ويحفظونها لملحمة قادمة، ولنصرٍ ما زال حبيس الاحتمالات والفرص. يسأل المذيعُ الطفلَ الذي بالكاد يمنع دموعه من السيطرة على المشهد: “لمن هذه الدموع؟ لمن تبكي؟” “للأرجنتين، للمنتخب، نحن في ربع النهائي ولا ينقصنا شيء. سنعود للأرجنتين كأبطال. الأرجنتين دائمًا، حتى الموت.” إنّه الحُلم المعلّق على قميص الرقم عشرة في المنتخب، الحلم الذي ينتظرونه منه، ولأجلهِ. الحلم الثقيل، أثقل بكثير من خمسة وأربعين مليون قلب. ليس الأرجنتينيين فقط من ينتظرون مشهدًا يحمل ميسي فيه كأس العالم ليضفي عليه شرعية جديدة، بل عالمٌ بأكمله يتمنى أن يستطيع ميسي رفع كأس العالم. حتى الخصوم، ما إن تنعدم فرصهم في الظفر بالكأس، سرعان ما يصرّحون بأمنياتهم ويعلّقونها في الشمس المطبوعة في أبيض الأرجنتين.
يا له من يوم! ميسي وفريقه إلى نصف النهائي بعد معركةٍ طاحنة ضد الفريق الهولنديّ. لا أعلم حتى الآن كيف وصلت الكرة من ميسي إلى (مولينا) الذي سجل الهدف الأول. كيف رآه؟ وكيف وضع له الكرةَ في مكانٍ لم يتوقعه (مولينا) نفسه؟ ما زال ميسي يفعل الشيء نفسه منذ سنوات، وما زلت لا أفهم كيف يقوم به. على أيّة حال ليس علينا أن نفهم، فنحن مستمتعون، وذلك يكفي. عندما حان وقت ركلاتِ الترجيح، قررت لشدة توتري التوقف عن متابعة المباراة، الخروج للشارع، وانتظار نهاية المباراة دون أن أعرض أعصابي لانهيارات الترجيح، علوّ كفّة ثم هبوطها مرةً أخرى، موت الحُلمِ ثم إنعاشه، لم يكن بإمكاني تحمّل ذلك كلّه. في الشارع بعد منتصف الليل، وفي وسط حيٍّ سكنيٍّ يبعد كيلومترات عدّة عن أقرب شاشات عرض المباريات في المطاعم والمقاهي، كان الوضع هادئًا حتى تهادى لي صوت صراخ بعيد، ظننتهُ صوت مركبةٍ ما فالبداية، لكن الصراخ صار يتكرر، مرّتين كل دقيقة. أول ما تبادر لذهني كان أن هذا الضجيج لهو صراخ عشّاق كريستيانو الذين يتمنون خروج ميسي من البطولة، فرحين بإهدار ميسي لركلة ترجيح. هرعت عائدًا للشقة لأجد أن ميسي وضع الكرة بنجاح في المرمى وأن حارس المنتخب الأرجنتيني تصدّى لركلتينِ من ركلات الهولنديين. كان أصدقائي يصرخون ليخبروني عبر هواء مسقط أن الحلم ما زال صامدًا، وما زالت الفرص مواتية لتشرق شمسٌ رابعةٌ في سماء بيونيس آيرس. ميسي اليوم على بعد 180 دقيقة من تحقيق المُراد لختام مسيرة لم يكن مثلها ولن يأتِ.
أثناء تعليقه على مباراة نصف النهائي بين الكروات ومنتخب ميسي قال المعلق الإيطالي (دانيلي أداني) واصفًا ميسي: ” إنه يمنح الحب عبر كرة القدم، يلامس الجميع: زملاؤه وخصومه. إنه يمنحه حتى للذين لا يعرفون كيف يحبون، أقول لكلٍّ منهم: افتح قلبك وقل شكرًا لميسي” وبعد نهاية اللقاء وتأهل منتخب الأرجنتين لنهائي كأس العالم، في مقابلة تلفزيونية قالت المذيعة الأرجنتينية لميسي في ختام المقابلة: “هذا ليس سؤالًا. أريد أن أخبرك أنه بالرغم مما قد يحدث بعد المباراة النهائية أريد أن أخبرك أنّ هناك شيئًا لا يُمكن سلبك إياه، تأثيرك على الأرجنتينيين، لا يوجد طفل في الأرجنتين لا يملك قميصك. لقد تركت أثرًا في حياة كلّ أحد. هذا بالنسبة لي، أهمُّ من أي كأس عالم. لا يمكن لأحد أخذ هذا منك، مقدار السعادة الذي تعطيه للكثير من الناس”.
أمّا أنا، بعد التمريرة الخيالية التي قدمها ميسي لزميله (ألفاريز)، نظرتُ -بكل ما لا أملك من سيطرة على انفعالاتي- في عيون صديقي عاجزًا عن النطق بأي شيء. كان الصمت هو التعبير الأصدق عن الفخر والدهشة. الصمتُ الذي يسمو بميسي بعيدًا عن عجز الوصف، هو الصمتُ نفسه الذي يُنعم به ميسي على محبّيه ليغنيهم بهِ عن محاولة إثبات ما هو مثبتٌ.
بنظرةٍ خاطفةٍ على الوضع الاقتصادي في الأرجنتين يمكن لأي منا أن يُشَخِّص الوضع النفسي لمواطنيها، الفقر يعصف بهم واليأس. بيدَ أن الأرجنتينيين هم الأكثر شغفًا في العالم حينما يتعلق الأمر بكرة القدم، لذا كان على الأقدار أن تكافئهم مرةً أخرى وتمحو اليأس المُعاش كما فعلت حينما أهدتهم مارادونا الذي سجّل هدفًا أعاد تعريف المنتصر في حرب الفوكلاند، ثم آخر لينطلق بعدها لحمل الكأس في عام 1986. أمّا هذه المرة وماردونا يشاهد كأس العالم من السماء ويعطي القوة للمنتخب كما يقول ميسي نفسه؛ أصبحت سعادة الأرجنتينيين رهن أقدام ليو، لا “يد الرّب” كما أدّعى مارادونا. السعادة التي يبثّها ميسي إلى العالم عبر قدميهِ، تُراقص الأرجنتينيين التانغو وتُرسلهم للسماء طيورًا مبتهجة. يبعث ميسي الأمل في قلوبٍ يباب لا يجري فيها سوى ميسي نفسه، ويعيد الحياة ولو بشكل مختلف إلى شوارع روزاريو وبيونس آيرس. أمّا عن الأرجنتينيين الذين سرقوا النّوم من عيون قطر، والراحة من جدران سوق واقف، آن للعالم أن يقف احترامًا لهم، حيثُ لا يُمكن إلا لأمهاتهم فقط منح العالم هذه السعادة والشغف مرّتين في قرنٍ واحد. وكما قال المعلّق فيكتور هوغو موراليس، وهو المعلق نفسه الذي علّق على أهداف مارادونا الآنف ذكرها، كما قال: “الساحر الاستثنائي، بحركة واحدة، يمكنه أن يُظهر جمال هذه الرياضة. هو علاء الدين الأبدي لكرة القدم”، هل يمكن اعتبار كرة القدم لعبة جميلة بالقدر نفسه لو لم تعطنا ميسي؟
هكذا إذًا هو شعور تحقيق الحلم! لا أعرف ما الذي يمكنني أن أقوله الآن دون أن أبدو عاطفيًا. عكفت على كتابة هذا المقال كفقرات بعد كل انتصار لميسي في كأس العالم 2022، وحتى نهار الأمس لم يكن هذا المقال ليخرج للعلن إلا بفوز ميسي بكأس العالم، وهو ما حَدثَ فعلًا. ماردونا الذي يشاهد من السماء، على حدّ قول ميسي، سعيدٌ الآن ويرسل مباركتهُ لميسي متوجًا ملكًا على عرش المستديرة، وملكًا على عرش لاعبيها. روزاريو حين أنجبت ابنها الأشهر والأكثر تأثيرًا على الكرة الأرضية لم يخطر ببال أحدٍ حينها أن روزاريو ستنجبُ ثائرًا آخر. ثائرٌ بشكل مختلف، ثائرٌ على العاديّة بالمعتاد، وعلى الملل بقدميه، وعلى الكراهية التي تغزو عالم الساحرة المستديرة بابتسامة (بلهاء). هكذا إذًا كان لقطر وافر الحظّ أن شهدت أرضها ملحمة الأمس. وهكذا كان على بطل الشعب الأرجنتيني أن ينتصر، بعد سيناريوهاتٍ سينمائية خطّ تفاصيلها هو ورفاقه طوال الفترة الماضية. حمل ميسي أحلام الأرجنتينيين وحمل الأرجنتينيون أحلام ميسي وطاروا معًا إلى السماء، حيث مارادونا وجيفارا، ليسطروا معًا مجدًا جديدًا للعالم وكرة القدم والأرجنتين. لا بدّ أن أختم مقالي هذا بالشكر الجزيل لميسي على كل ما قدمه للعالم ولي شخصيًا من سعادة، أمرٌ -بالإضافة إلى كأس العالم- لا يمكن لأحدٍ أخذهُ منه.