نقائض | علي المجيني

مدونة شخصية أنشر فيها ما أكتبهُ مقالًا وترجمةً، كما أستعرض فيها بعض المراجعات الذاتية والموضوعية.

يسري الغول يهذي أحيانًا

Untitled-7

نشر على صحيفة عمان في 1 إبريل 2024

إن الخيال قادرٌ، إن لم يتعامل معه الكاتب بحذر، على التهام إبداعه وإحالته إلى هذيان ضبابيّ المعنى. هذا هو الاختبار الذي وضع يسري الغول فيه نفسه في مجموعته القصصية “جون كيندي يهذي أحيانًا”. حاول الروائي والقاص الفلسطيني الغزّي أن يتناول آماله ومخاوفه ومتعه وعذاباته وحتى اسمهُ وصنعته عبر الخيال، فظلّ يطرق أبواب عوالم ما بعد الموت قصّةً تلو الأخرى. مستحضرًا شخصياتٍ يحبُّها أو يكرهها أو لا يأبه بها، محاكمًا بعضهم تارةً، ومحاورًا بعضهم الآخر تارةً، ومبجّلا البعض في مرّات. وعبر تخيّل عوالم ما بعد الموت، تطرق الغول إلى قلق ينتابه حول ما إذا لم يكن الموتُ خلاصًا فعليّا، بل نقطة تنتهي فيها الدائرة لتبدأ من جديد، فهي مرةً دائرةٌ طبق الأصل من الأولى، ومرّةً هي دائرةٌ من عذابات ذهبت إلى القبر مع الجثة،  وهكذا أبدى القاص الفلسطيني قلقًا من الحياة، وقلقًا من الموت، وهو قلقٌ يعكس عبر عدد من القصص خصوصيّته الفلسطينية، “ألا يتوقف هؤلاء عن الفتك بنا حتى بعد موتنا؟”.

كما تمكّن الغول من اللعب في ملعب دانتي ومن قبله شيخنا أبو العلاء، عبر المقهى المفترض كما أطلق عليه في إحدى القصص وهو ما بدا لي كمكان تجتمع فيه الشخصيّات التي علقت في ذاكرة الكاتب، بينما وضع الكاتب ذلك المكان مطلًّا على “الكوثر” من جهة، ومطلًّا على “بركان يتلظّى وقفصٍ كبير لصقورٍ بمناقير معقوفة” من جهة أخرى، وتتفاعل في المقهى شخصيّات بارزة في ذاكرة الكاتب على وجه الخصوص، وفي الذاكرة الإنسانية بشكلٍ عام، فتجد فيه من تشتاق أن تراه وتحاوره، وتجد فيه من تتمنى أن يعود للحياة مرّةً أخرى ليموت ميتةً شنعاء، لا شيء عدا ذلك.

لكن ما يثير الفضول حقًّا هو مغامرة الكاتب بزجّ اسمه وشخصه وحتى فعله -أي استنطاق الشخصيات عبر قصصه- في مجريات عدد من قصص المجموعة. الأمر الذي أرى فيه مغامرة أثارت فضولي وتعجبّي لاعتبارين متضادين؛ أولًا، لجرأة المغامرة في كسر القالب الخياليّ المعتدل الذي تنبع منه كل شخوص القصص بطريقة سلسة في كثير من الأحيان، وثانيًا لفجاجتها وتأثيرها السلبي على انسيابية القصّة المعنيّة في أحيانٍ أقلّ. إلا أن الكاتب تمكّن في المجمل من خلق حواراتٍ ممتعة وطريفة بين الشخصيات التي عمل على استحضارها من عالم الموت، أو التي عمل على الذهاب إليها كمراسلٍ أو معلّق قادم من الحياة لمزيد من الدقة. فتارة نجده يستنطق شخصيات عُرفت بعداءها اللدود لبعضها في حوارٍ يجمعها على ودٍّ متخيّل أضفى شيئًا من الظرافة على التاريخ، بل وأتى مصداقًا مُتخيّلًا على مقولة كارل ماركس -الذي نجا من أنياب يسري “المفترضة”- : “التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة”. وتارةً أخرى نجد الغول “يجمع الشتيتين بعد أن ظنّا ألّا تلاقيا”، كما في قصة “سلفادور أليندي يلقي خطابه الأخير”، حينما جمع بين السياسي التشيلي، وبين شاعر تشيلي الخالد، في لقاء أسطوري لم يكن ليليق بسواهما، لولا أن يسري اختار أن يظهر أبو عمّار وهو يدفع أحمد ياسين على الكرسي المتحرك، ليُسكن الأولُ الرصاصة المؤجلة منذ عقود في قلب شارون، هكذا كان الكاتب يحلم وينتقم متنقلًا بين طبقاتٍ أثيرية من خيالٍ مُتخيَّل، جامعًا ما استطاع أن يجمع من آماله وأحلامه وذكرياته ومخاوفه ورغباته وأسراره، ليصبّها على لسان موتىً لا صوت له بدونهم، أو كما قال الشاعر السعودي سليمان المانع “أحسّ بداخلي عالم حرام اقتل مخاليقه  — حرام أسكت وأنا صوتي نذرته وجه لاتباعي”، موتىً لا صوت لهم إلا صوت يسري الغول.

اقتنيتُ هذا الكتاب من معرض مسقط الأخير، جلست مع أحد الأصدقاء بعد نهاية المعرض مستعرضًا حصيلة الكتب من دورة هذا العام، فنبّهني إلى نقطة مهمّة حول هذه المجموعة القصصية بقوله: “لا بد من دراسة يُستقصى فيها أثر منصة “نتفليكس” على الكُتّاب العرب”. فكما يمكن للجميع الملاحظة، يبدو الاسم الذي أطلقه الكاتب على المجموعة القصصية هوليووديًّا/نتلفكسيًّا بامتياز، وكذلك كان بالنسبة لعدد من القصص. بطبيعة الحال، لم يخلُ الكتاب من بعض القصص الباهتة، والتي أشير إليها هنا لأعود إلى الاختبار الذي وضع الكاتب نفسه فيه. اختبار فيه الحَكَم ميزانٌ بكفة من خيال وأخرى من هذيان، ولاشكّ أن كفة الخيال ترجح لصالح هذ المجموعة القصصية، إلا أن عددا من القصص جاءت كهذيانٍ خاوٍ من المعنى، أو كما يقول الإخوة في السودان “كلام ساكت”، هكذا وجدت بعض قصص هذا العمل الجيّد في المجمل، لا تقول شيئًا.

كما أودّ أن أشير إلى سؤال خطر ببالي لاعتباراتٍ عدة، منها أن يسري الغول مواطن غزّاوي، وكذلك ما تشهده غزة اليوم من إبادة بالتجويع، والقصف، والتهجير، والاغتيالات. هل كان الأمر أسهل على يسري الغول حينما قرر الكتابة من خلف ستار الموت؟ هل كان الأمر أيسر، لأنّه ومنذ ما يقارب العقدين من الزمن كانت غزة عالمًا من عوالم ما بعد الموت، أو برزخًا داخل الأرض؟ وهل على الكاتب الغزّيِّ أن يُسيلَ حبره كما دمه، دائمًا لصالح الموت؟

جديرٌ بالذكر أن المجموعة القصصية هذه صادرةٌ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram
Scroll to Top