نقائض | علي المجيني

مدونة شخصية أنشر فيها ما أكتبهُ مقالًا وترجمةً، كما أستعرض فيها بعض المراجعات الذاتية والموضوعية.

على الأقل نحنُ كُثر: مقاومة طبول الحرب

the-hague-protest-akbar

كاڤي أكبر – لاهاي- في الخامس عشر من يونيو الجاري احتشدتُ مع مئة وخمسين ألف إنسانٍ في لاهاي ضد الحرب الإسرائيلية على غزة حيث لوّح الأطفال من النوافذ المطلّة بالأعلام الفلسطينية، فلوّحنا لهم بأيدينا. وفي خضم الساعات الأربع تلكم، شاهدت اثنا عشر شرطيًّا، بدون سلاحٍ رشّاش واحد! بكيتُ في لحظةٍ ما، وأومأ لي رجلٌ يرفعُ لافتة بها صور آباءٍ وأطفالَ فلسطينيين مع عبارة: “تخيّلوا.. اليوم هو عيد الأب!”، أومأ لي مؤّكدًا ما كان يجري بطريقةٍ يمكنني الشعور بها في أطراف أصابعي وأنا أكتب الآن.

قبل ذلك ببضعة أيّام، علمتُ بالهجوم الإسرائيلي على إيران بينما كنتُ أتناول الغداء مع قدواتي الإبداعية -أولئك العمالقة الأدبيين الحقيقيين، ممن أشعر في حضرتهم بأني لا أعرف حتى كيف أتناول الطعام- في قصرٍ مشمس بريف توسكانا. وبينما كان الجميع يتناول الأصناف الراقية من المنحوتات القابلة للأكل، كنت، وبشكل قهري، أفتح هاتفي المحمول مرةً بعد أخرى بحثًا عن الأخبار، وترقّبًا لرسائل تؤكد أن أحبّتي في إيران أحياء. لي عمّةٌ في المرحلة الرابعة من السرطان تخوض علاجها الكيماوي، وابنة عمّة لم تفارقها يومًا. كانت قنوات واتساب وتيليغرام تعجّ بالمقاطع المصورة بالهواتف المحمولة؛ دخانٌ يتصاعد من مجمعاتٍ سكنيّة، صورٌ لرجال مضرجين بالدماء، وأطفال مصطبغين بالرماد.

حينما نطقت أخيرًا على المائدة، تحدثت بجنون، بهستيريا، عابثًا بالمقبّلات بأصابع مرتجفة، وملتهمًا بنهمٍ طبقًا كاملًا من الكرز، شعرت وكأنني إحدى شخصيات إدغار آلن بو الشريرة؛ أختبئ في قصر فاخرٍ بينما يحترق شعبي، ظللت أرددُ ذلك مرارًا. وخلال ذلك الغداء الطويل، تسوّلتُ سيجارتين ودخنتهما بعد أحد عشر عامًا لم أمسك فيها بسيجارة واحدة!

أقول قولي وبالكاد أعرف أين أنا، كل ما اريده هو أن أكون في البيت في آيوا مع زوجتي وحيواناتي الأليفة، أن أكون بحيرة صغيرةً يمرحون فيها بسعادة. أكتب في هذه الساعات الحارقة والمفصلية التي تتشكل فيها سياسات وآراء لأنني لم أجد إلا عددًا قليلًا متناقصًا من الآراء الإيرانية في قنوات الإعلام البارزة، وعددًا أقل ممن يُسمون العدوان بما هو أسم له: عدوانٌ عنيف من دولة نووية إباديّةٍ نشطة على شعب مضطّهدٍ من الأساس.

بكل وضوح؛ نظام خامنئي في إيران هو ثيوقراطية موت (تعبد إله الذكورية الذي قدموا له آلاف الأرواح قربانًا، من بينهم أفرادٌ من عائلتي) تحت مسمّى جمهورية إسلامية. نظام ترمب في أمريكا هو ثيوقراطية موت (تعبد إله المال الذي لأجله ستقدم حياتي وحياتك قربانًا دون تردد) تحت مسمّى جمهورية علمانية. نظام نتنياهو في إسرائيل هو ثيوقراطية موت (تعبدُ إله القوّة الذي قدّموا لأجله 55104 روحًا فلسطينية على الأقل في العشرين شهرًا الفائتة) تحت مسمّى جمهورية يهوديّة. لا أشعر تجاههم جميعًا سوى بالاحتقار.

ومع ذلك، سأكتب هذا، وسيصفني البعض بأنني “مدافعٌ عن النظام الإيراني”، فقط لأنني لا أصفق لمجازر يرتكبها مجرم إبادة جماعيّة بكل ابتهاج ليفتك بمدنيين يشبهون أعمامي وأبناء خالاتي وبنات إخوتي! أبلغ من العمر ما يكفي لأتذكر كيف اصطنع الرئيس جورج بوش إجماعًا زائفًا لغزو العراق وأفغانستان تحت وعود أن الشعوبَ سترحّب بأفراد القوات الأمريكية بوصفهم مُخلّصين. تلك الخطابات أدت في نهاية المطاف إلى واقعٍ مأساويّ؛ حيث إنّه وفي العام 2025 نجد أن 44.6% من أطفال أفغانستان دون الخامسة يعانون من التقزّم بسبب الجوع المزمن. وفي العراق، الذي لا يزال يعاني من بنية تحتيّة مدمّرة بعدد قليل من المستشفيات لرعاية الإصابات المزمنة وسوء التغذية بعد أن قُتل أو هُجر جيلان من أطبّائه. أيُّ شيءٍ دمّرته الإمبراطوريات الاستعمارية عبر تاريخها وأعادت بناءه على نحوٍ أفضل؟ ومن ذا الذي جعلته قنبلة إسرائيلية أكثر حُرِّيّةً؟

في منشور على صفحتها في الإنستغرام كتبت الروائية سحر ديليجاني: “وُلدتُ في سجن إيراني، لا يُمكنك أن تخبرني عن جرائم النظام، فلقد جربتها بلحمي ودمي. لكن ذلك لا يعني بأني أريدُ لشعبي أن يُقصف ويشوّه ويُقتل أو تُهدم بيوته. إن كانت رؤيتك للتحرير قائمة على تدمير الأبرياء، فليست الحرية ما تبحث عنه”. أقولها، بشيءٍ من الفجاجة ربما، ينتابني شعورٌ مؤلمٌ، كأنني أقول لنفسي: “حسنًا، الآن يهاجمون إيران، حان دوري لأعرض ألمي، لأودي مشهدي لاجتياز اختبار تعاطفكم”. مواكبة الجنون الإسرائيلي في قصف أي مكان في العالم في أي لحظة -غزة، سوريا، لبنان، وإيران، فقط خلال الإسبوع الفائت- هي دوّامة عنيفة تدوّخ العقل، ولست ألوم أحدًا إن عجز عن ذلك. والآن إسرائيل تقصف إيران، بينما الفجوة في داخلي تتسع بين تفجّع عائلتي هناك -ذلك التفجّع المرتبط بالخوف والموت- وبين غضبي أنا هنا عن بعد، ومن مسافتي الآمنة، تغور الفجوة وتضخّم في دماغي ذلك الاحتياج البدائي، وتصرخ فيّ الغريزة: افعل شيئًا، قل شيئًا، استثمر ما بيدك. فخرجت في المسيرة وها أنا أكتب.

ستدفعك خطابات نتنياهو ومُمكّنيه للاقتناع بأن السبب وراء القصف هو برنامج التخصيب النووي الإيراني (وهو الأمر الذي بات مثبتًا بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان يكذب بشأنه على مدار عقود ثلاثة)، وبأن قنابله تأتي تضامنًا مع الشعب الإيراني المضطهد على يد نظام خامنئي (إن كنت تصدق بأن نتنياهو يأبه مقدار بعرةٍ بالشعب الإيراني، أدعوك لمعاودة قراءة المقال حينما تكون أقل سُكرًا). إن السبب الذي يدفع نتنياهو لقصف إيران هو أن المحكمة الجنائية الدولية هنا في لاهاي أصدرت مذكرة اعتقال بحقّه، ولأن الملايين يتظاهرون ضد إبادته الجماعية المستمرة في غزة. إيران، في هذا المشهد، تمثّل فزّاعة جاهزة، محاولةٌ يائسة لكبح جماح تيّارات الرأي العام المتنامية. يروّج نتنياهو مقاطع قديمة زاعمًا أنها حديثة تُظهر “الإيرانيين يحتفلون بالقصف الإسرائيلي”، الأمر الذي صنفته منصة X التي يملكها إيلون مسك على أنه زائف، نتنياهو الذي حُوكم في بلاده في قضايا تتعلق بتزوير الانتخابات والرشوة يعرف كيف سيحاكمه الموتى، ولذا يحاول أن يكسب رأي الذين لم يموتوا بعد، لا تنخدعوا.

تسنت لي الفرصة مؤخرًا لأرى لوحة كارافاجيو “التضحية بإسحاق” في أسبوع عيد الأضحى، الذي يحتفي فيه المسلمون حول العالم بإيمان إبراهيم. أمام اللوحة التي يعود تاريخها إلى أربعة قرون، شعرت فجأة بأنني أفهم قصة إبراهيم ومحاولته الوشيكة للتضحية بابنه، وهي في ظاهرها محاولة فظيعة، إلا أنني فهمتها بوصفها حكاية مجازية تصوّر الإيمان الذي يتجاوز حدود الأخلاق المجرّدة، إيمانٌ يستوجب ما هو أكثر من التزام انتقائي بمبادئ أخلاقية تنسجم مع القناعات الشخصية. لم يفهم إبراهيم لمَ كان الله يأمره بذبح ابنه، كما لم يفهم الابن المسكين ذلك أيضًا، إسحاق الذي صوّره كارافاجيو وأمارات فزعٍ لا يُصدّق تعلو وجهه، في مشهدٍ مهيبٍ من تضاد الضوء والظل. وعلى الرغم من أن كليهما لا يفهم لمَ يجب على إبراهيم أن يقوم بذلك، يضع إبراهيم السكين على منحر ابنه، غير منتظرٍ لأي تفهم أو غفرانٍ من إسحق، ودون سابق علمٍ أو حتى ظنٍّ بأن الله سينقذ إسحق ويُبدله بكبشٍ. لقد تجاوز إيمان إبراهيم حدود تصوّره وإدراكه، وكان هو مستسلمًا تمامًا لهذا الإيمان.

أن يبلغ المرء هذا النوع من الإيمان، يعني أن يؤمن رغم رعبه، وأن يؤمن بما يتجاوز حتى حدود خياله. تلك هي سجيّة المناضلين الجسورين المطالبين بعالمٍ بلا سجون، مجتمع لم تعرف البشرية مثله من قبل. وهي سجية أولئك الذين يقاتلون من أجل فلسطين حرة لم يرها أحدٌ منا في حياته، ومن أجل إيران قائمة على العدالة والمساواة لم نرها نحن ولا حتى أجدادنا، ومن أجل ولاياتٍ متحدّة تخلّت تماما عن الرأسمالية الاستغلالية عسكريًّا وبيئيًا، وهي التي لم تكن يومًا غير هذا مذ وُلدت في دماء السكان الأصليين والرقيق.

في ذلك الحفل الراقي، الجميل بحق، الذي أقيم في اليوم نفسه الذي شنّت فيه إسرائيل هجماتها على إيران، كنتُ شاردًا على نحوٍ واضح، متوتّرًا، مندفعًا، ومضطربًا. في لحظةٍ ما، قدّمني أحدهم بوصفي “شاعرًا إيرانيًّا”، فمدّت امرأةٌ مسنّة، لا أعرفها، كانت تقف بجانبي، يدها بهدوء نحو يدي،  وهمست: “أنا من السودان. وكما كان أبي يردد دائمًا: على الأقل نحنُ كُثر”.

لم يحدث يومًا أن خُصِصْتُ بنداء إلهي في الوادي عند الشجرة، ولا خاطبني ملاكٌ بوحيٍ في غار، ولا أظن أنني آمنتُ يومًا بالأمل، أو على الأقل لم أثق به. فالأملُ طريقٌ منهك ينتهي إلى السخرية والخيبة، ولا أحتاجه كي أَخلُص بصدقٍ إلى ما ينبغي علي فعله في اللحظة الراهنة. لكني أؤمن بقوّةٍ عُظمى تتجسد في بهاء الإنسان (وجود كارافاجيو، أو الفنّ بشكل عام، يبدو دليلًا قطعيًّا على ذلك).”على الأقل نحن كُثر” كانت تلك العبارة هديّة انتماءٍ وتضامن من غريبة وأبيها، هبةٌ نقيّة، لا تُختزل، ولا تُفسّر.

في هذه الأيام العصيبة من الإرهاق الغامر المدبّر، يجب علينا مقاومة الإجماع الزائف، والدعوات الفجّة للرضوخ المُهين، علينا أن نفكك اللغة، ونحمّل التغطيات الإعلامية مسؤولياتها، علينا أن نحتج. علينا أن نطلب من عوائلنا، أصدقائنا، زملائنا، وجيراننا الجمهوريين معارضة أي تورّطٍ أمريكي إضافي. نعم، لا يمكننا تغيير الماضي، وهذا ليس ما أطلبه، لا يزال هناك وقتٌ لنبتعد عن مستقبلٍ يصر على إقصاء الإنسانية ليمعن في إفناء البشر.

عن المادة المظلمة التي تربط الكون ببعضه كتبت الشاعرة والفلكية ريبيكا إليسون:

“وكأنما كل ما كان موجودًا يراعات

بها نستدل الدرب للمروج”

رأيت الكثير من اليراعات اليوم، خرجت في مسيرة مع مئة وخمسين ألفٍ منها، هتفتُ معها وبكيت، وصوتٌ في رأسي يصدح: على الأقل نحنُ كُثر، على الأقل نحنُ كُثر، على الأقل نحنُ كُثر. كنّا نضيء الطريق نحو المروج وإن لم يكن مرئيًا بعد. مكانٌ أخضر نيّر، يُتاح للأطفال، كل الأطفال، أن يكبروا فيه. يمكنك أن تنضم لنا هناك، إن شئت.

فكرتين عن“على الأقل نحنُ كُثر: مقاومة طبول الحرب”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram
Scroll to Top