نُشر هذا المقال على صحيفة عمان في 29 مارس 2023
ربما تكون رواية الغريب هي العمل الروائي الأكثر انتشارا بين أعمال ألبير كامو، العمل الذي استعرض فيه فلسفته التي تدور حول عبثية الوجود ببراعة خلّاقة: “اليوم ماتت أمّي، أو لعلها ماتت أمس. لستُ أدري.” بهذه العبارة وحدها، أسس ألبير لرواية عظيمة منذ السطر الأول. لألبير عملٌ روائيٌ آخر لا يقلُّ أهميّة عن رواية الغريب. رواية (السقوط)، وهي عمل غاية في الإبداع، والقدرة على تشخيص واحدة من أهم مشاكل جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. في هذه الرواية يختار الكاتب اقتباسًا عن (ميخيائيل ليرمنتوف) من (بطل من هذا الزمان) كتوطئة لروايته “السقوط”. ولا عجب في ذلك حيث صنع ليرمنتوف شخصية بوشكين ليصب فيها شرور جيل بأكمله، وكذا فعل ألبير بخلقه لشخصية (جون بابتست كلامانس). في الرواية يحاول ألبير أن يستعرض خطورة عدم وجود نظامٍ قيميّ حقيقي ومتأصل يساعدُ بهِ المرء نفسه وهو يعبرُ هذه الحياة. وكما قال في أحد أكثر أعماله الفلسفية أهميةً (أسطورة سيزيف): “علينا أن نتخيل أن سيزيف كان سعيدًا” وبهذا الافتراض فقط يمكننا تبرير استمرار سيزيف الأبدي في عمله الذي يجسّد -حسب رأي ألبير- لامنطقية ولاعقلانية الحياة الإنسانية. إذن، لا بدَّ من أساسٍ صلبٍ متين قادر على أن ينجو بنا مما قد نمر به من تحديّات أخلاقية وقيمية. لكن (كلامانس) الذي كان يعتبر نفسه هبةً إلهية للوجود -رغم عدم إيمانه بإله أو بعالمٍ آخر- لم يستطع النجاة بعد أن رأى كلّ شيء حوله ينهار.
(كلامانس) المحامي الباريسي المرموق، الرجل الذي يترافع بالنيابة عن المساكين، واليتامى، والأرامل. الرجل الذي يتوقف للضائعين على الطريق لإرشادهم، والذي يساعد كبار السن والعميان على تخطي الشارع، الرجل الذي يتنازل عن مقعده في الحافلة إن رأى سيدة أو طفلا أو عجوزًا يقفون في الحافلة. يا لهُ من رجلٍ رائع، أليس كذلك؟ يمكننا أن نقول ذلك، لولا أن ألبير أطلعنا على ما يدور في ذهنه وهو يفعل ما يفعله. في لحظةٍ ما، وحينما كان (كلامانس) في أمستردام بعد (سقوطه) من باريس يراجع ما كان يقوم به وجد أنّه لم يكن أكثر من خدعةٍ متعددة الطبقات مصفوفة بدقة هائلة. كان أحد الأدلّة على ذلك، موقف يشكرهُ فيه رجلٌ أعمى كان (كلامانس) قد ساعده ليعبر الشارع فكان ردّ (كلامانس) على الشكر أن رفع قُبّعتهِ للرجل الذي لا يراه. يرد (كلامانس) على نفسه: ” لكن الرجل أعمى، لم يكن دافعي إظهار الاحترام له، بل كانت وصلة تمثيلية رائعة أردت كل من كان حاضرًا أن يشاهدها”. وبهذا يتضّح أن ما قد يبدو لنا كمصاديقٍ لأساس أخلاقي متين، ليس إلا مشاهد مبتذلة تنتظر تصفيقًا من الجمهور، لا أكثر. يرى (ستيفان ويست)، مقدّم برنامج إذاعي فلسفي، أن كل ما كان (كلامانس) يفعله لم يكن مدفوعًا بأساس أخلاقي متين يتمسك به، بل برغبته بالشعور بأنه أسمى من كل من يحيطون به، وإقناعهم أيضًا بنفس الشيء.
ثلاثةُ مواقفٍ مرّ بها (كلامانس) أدت به إلى “السقوط” من أعالي باريس إلى أزقّة أمستردام القابعة تحت مستوى البحر. حطّمت هذه المواقف غروره واعتداده بنفسه. لم يكن أولها موقفًا غير عاديّ، فقد يتعرض له أيٌّ منّا، ولهذا السبب عينه، كان الموقف محطِّمًا بالنسبة لـ(كلامانس). لم يكن الموقف أكثر من ضربةٍ تحت الحزام غوفل بها أثناء شجار على الطريق، ضربهُ رجلٌ غريب وهرب ليثير بذلك ضحك كل من تجمهر حوله. موقفٌ محرجٌ هو أقصى ما يمكن قوله عما حدث. لكن بالنسبة لـ(كلامانس) كان أمرًا هجم عليه في لُبِّ ما يعتقده عن نفسه، فهو الرجلُ الهديةُ الكونيةُ، وهو الرجل الذي يتمنى أن يصبح الجميع مثله، وأن يتعرض رجل مثله للضرب، ومن ثم ضحك المتجمهرين على حالهِ، لم يكن أمرًا في غاية الإهانة فحسب، بل أمرٌ أدى بالفقاعة الأخلاقية التي كان يحيط بها نفسه، للإنفجار في وجهه ومحاصرته في دوامة من الشكِّ الذي لا ينتهي؛ شكّ يخلخل ما يظنّه (كلامانس) هويّته. وكذا كان الأمر في الحادثتين الأخريين.
في أمستردام، يقضي (كلامانس) معظم وقته في بارٍ يُدعى (مكسيكو سيتي)، يلتقي بالغرباء ويعترف لهم عما كان يدور في حياته في باريس بشيءٍ من الخُزي الملحوظ. مُغلّفًا بذلك نرجسيته التي كانت ظاهرةٍ للقارئ، الذي سيجد أن كل ما يُقال في الرواية كان يقوله (جون بابتست كلامانس). يعترف بكل القبح والبشاعة اللذين سطّرا قصة حياته في باريس، لكنه يُخلّل كل اعترافاته بأحكام يطلقها على كل من حوله. إذ يبدو أن (ألبير كامو) يحاول كشفَ بُعدٍ (تمثيلي) جديد تقوم به الشخصية. لا تبدو الاعترافات صادرةً من شخصٍ يعترف فقط ليعترف. بل أن هناك أمرٌ يريد الوصول إليه من خلال الاعتراف، وهو ربما ما يسميه (كلامانس) بوظيفته الجديدة في أمستردام: “القاضي المذنب التائب”. يلعب الدورين، دور المُعترف، والمرشد الذي يستمع للاعتراف. وبذلك يقيّض لنفسه مساحةً مهمّة يستطيع فيها أن يتجنب أحكام الآخرين وفي الآن ذاته، أن يُصدر أحكامه الشخصية في حقهم. أنا الرجل المليء بالعيوب، ولكنني أنا ايضًا من يعترف بها جميعًا، فكيف أُعاب؟ ولماذا لا يحق لي أن أشير إلى عيوبكم أيها الناس؟
من الجدير بالذكر أن الرواية لم يكن فيها سوى متحدثٌ واحد، وهو (كلامانس) نفسه. ومستمعٌ واحد، لم يتم التعريف به بشكلٍ كافٍ. ولهذا يمكن القول أن (كامو) كان يحاول أن يجعل القارئ هو الشخص الذي يحادثه (كلامانس). السقوط هو العمل الروائي الأخير الذي نُشر قبل وفاة ألبير، وكان -بحسب (ستيفان ويست)- يتوجه فيه نحو وضع منطلقٍ جديد لفلسفته. “السقوط هي الرواية الأجمل والأقل فهمًا بين روايات ألبير كامو” هكذا لخّص جان بول سارتر رأيه حول رائعة ألبير. تُرجمت الرواية إلى عدد من اللغات منها العربية وهي ترجمةٌ صادرة عن دار نينوى بترجمة يارا شعاع.